الاثنين، 3 أكتوبر 2011

برشلونة ..كتاب "غودي"


عدا عن الحيرة ازاء تجليات إبداع "غودي" في فن العمارة ببرشلونة ، فان المدينة الأكثر أوروبية في اسبانيا تبدو عادية وذلك سر تميزها. ليست بها زحمة مرورية كبيرة كما في مدريد ،ولا احتقان في الصراع علي الهوية بين المهاجرين والسكان الأصليين كما في مدن إسبانية أخري
لقد نجحت الحكومات "الكاتلانية" المتعاقبة في عدم تخصيص "غيتوهات" خاصة لفئة دون أخري من المهاجرين ، لذا بدا صديقي الكاتلاني ،مدير بلاندوليت ، الصحافي في قناة التلفزيون الثالثة ،مزهوا وهو يقول  لي بافتخار ان احدي تلك الساحات المليئة بالرسامين والزوار نهارا تتحول في الليل إلي ملعب للكريكيت، تتنافس فيها فرق من الباكستانيين.
النقطة السوداء الوحيدة في سجل التعايش مع الأقليات في عاصمة كاتالونيا، هي الحديث عن النقاب والبرقع. لست ادري من  الذي جلب ذلك السجال الذي ينفس فيه السياسيون الفرنسيون عن عدم قدرتهم جلب أفكار جاذبة في التنمية والحياة ،تنفع في الانتخابات في زمن الأزمة والخيبات.
قال مدير انه بحث طويلا ووجد ان النقاب ليس من الضرورات. وبدون الغوص في حديث فقه الأقليات التي أدرك تماماً أني وصديقي الكاتالاني لا نفتي فيه بالقدر المقنع الا اننا اتفقنا ان لا حاجة للبرقع في شوارع برشلونة كما إن لأهل السياسة شأنا أفضل من تسجيل صورة نمطية غير واقعية عن الإسلام.
برشلونة تتنفس الثقافة .هنا تركوا لذلك المهندس الفنان، كامل حريته ليبني العمارة حسب خياله الجامح .العمارات تأخذ أشكالا بهلوانية ، أشجار ،أوراق ورسوم وألوان مختلفة.
"غودي" ونادي فريق بارصا، ليسا وحدهما من يساهم في جاذبية المدينة التي اختارتها مجلة" فوربس" كواحدة من أفضل المدن في العالم  لمناخ الأعمال.
لم نتطرق ،أنا والمدير، كثيرا للبارصا وان كان الجدل الدائر اليوم و يشغل بال الجميع هو كون مؤسسة قطرية هي الراعي الأهم للفريق الكروي الشهير. لست ادري قدر الحساسية وما هي أسبابها ولكن كل ما اعرفه ان ثمة حاجة للمال في زمن الأزمة والمال العربي يثير الجدل أينما حل بشرط ان يقع في أيدي الجهة المنافسة في الغرب، في السياسة كما في الرياضة.
قاومت فكرة إن اشتري قميصا للبرصا ، اهديه لأحد الشبان في قريتنا الذين يلعبون بأقدام حافية ويحفظون أسماء كل اللاعبين.
 انتصرت في النهاية إرادة ان لا اشتري القمصان الرياضية فقد كرهت كرة القدم منذ ان انهزم فريق قريتنا في احدي المباريات ولم تشفع لي انتصاراته فيما بعد.
في جامعة" رامون يؤول" التي أخذت اسمها من احد المثقفين الكاتلان، في القرن الثاني عشر، وجدت نفسي أمام فريق عمل مختلف. وجدت حرية مطلقة في الحديث دون أن تواجهني " تابوهات "وأشفقت علي الشبان الذين سيكونون قريبا جزءا من قبيلة الصحافيين. بدت أسئلتهم المليئة بالحيرة جزءا من التكوين وهو ما أكده ناظر الكلية فيما بعد،  حين قال لي نريد دائماً أن نشوش أذهان الطلاب اذ الشك  في النهاية هو اقصر طريق للإيمان.
في برشلونة التقيت صديقي، كيم امور، بعد فراق دام عقدا ونيف. كان عائدا للتو من القاهرة وبيروت لتصوير فيلم وثائقي عن واحد من اقدم واشهر المراسلين الإسبان في العالم العربي هو  توماس الكوبيرو.
لم يفقد كيم أريحيته وحسه الفكاهي الذي غذته السنوات الخمس التي قضاها مراسلا في القاهرة لجريدة "البريوديكو"
راكم الصحفي التجربة وبدا فرحا ومتحمسا للثورات العربية وقال لي أتعرف ان العرب أفضل منا؟ لقد غيروا حكامهم في ثورة حقيقية، اما نحن الإسبان فقد انتظرنا فرانكو حتي يموت لنقول اننا غيرنا كل شيئ.
تنازعنا، وانا كيم،  لبعض الوقت ثم اتفقنا في النهاية . كان يريد  استعادة قطعة الأرض التي وهبته إياها حين جاء الي في قريتنا مشدوها بالصحراء وحياتها الأسطورية في خياله الغربي. احتكمنا ل "غوغل ارث " ليقول له المحرك بلغة الصورة ان الصحراء التي شاهدها أخر مرة قبل خمسة عشر عاما امتلأت بالبيوت المتناثرة ولم يعد بها موطئ قدم لاسباني حالم.
قلت لصديقي الكاتالوني اولا ثم الاسباني لاحقا : إنني شخصيا فضلت الركون الي ارض أجدادي علي بعد ثلاثة أميال من قريتنا  لاستعادة ما سنفقده قريبا  من صمت الصحراء الذي لا يقدر بثمن.
حان وقت الوداع فتلك زيارة خاطفة وقلت لأصدقائي الإسبان ان مدينتهم "برشلونة" جميلة و شعبهم مضياف تماماً مثل عبارات البرقيات التي يبعث بها الرؤساء وهم يعبرون أجواء الغير، حيث لا يكلفون أنفسهم حتي عناء إطلالة من الفضاء ؛ اما أنا فقد تمعنت كثيرا لأن مطالعة المدن مثل قراءة الكتب الجميلة متعة حقيقية لمن عايشها  فقط.

صحراء ميديا بتاريخ: 02/10/2011  
http://www.saharamedias.net/smedia/index.php/2008-12-24-00-08-06/12526--qq-.html

شهادات الغائبين


كانت المناسبة ؛ مرور خمسين عاما ؛ علي بدء نشر مجلة جون افريك.. وقف بشير بن يحمد ؛ بقامته الهزيلة ؛ يصافح الضيوف ؛ عند مدخل فندق حسان؛  في الرباط .. بضعة طبالين أفارقة؛ وقفوا عند المدخل ؛ إشارة الي تخصص الصحيفة ؛  في معالجة قضايا القارة السمراء..  تخصص  حاول بن يحمد ذات يوم ؛ ان ينحو به نحو العالمية ؛ دون ان ينجح ؛ عندما أعطاها اسم " الانتلجان "  ليعود بعد ذلك الي الاسم الأثير " جون افريك "  أو " الإفريقي الفتي" .
لكن العالمية ؛ تتطلب رؤية أكثر موضوعية؛  لعالم متشعب ؛ تبدو منافسة الكبار فيه ثقيلة ؛ علي الجيب والحرفة. شاخ بن يحمد ؛ أو هكذا بدا لي ؛ وهو ينساق في لعبة صعبة؛  عندما أراد ان يرضي طرفين متناقضين ؛ فهو يحتفل بخمسينية مجلته ؛ في الرباط؛  ويريد في ذات الوقت إرضاء الجزائر؛  التي كان يشرأب سفيرها  ؛ الجنرال العربي بلخير ؛ كلما أومأ بنيحمد ؛ في إشارة ترضي جمهوره المغربي ؛ و عندما استعصي علي العجوز التونسي إرضاء الفريقين ؛ انصب ينقل الشهادة تلو الاخري؛ علي من غادروا هذه الحياة ؛ وصار استسهال النقل عنهم أمرا سهلا.فهاهو ضيف علي الملك الحسن الثاني ؛ في باريس ؛ بحضور السفير المغربي وقتئذ ؛ وكلاهما في دار الحق ؛ وهاهو المختار ولد داداه ؛ يسر إليه بعض أسرار حرب الرمال؛  ويحمل الملك الراحل بعض تبعاتها.قد يكون الأمر ممكنا ؛ ورواية بن يحمد حقيقية؛   لكنني لا أحب من ينقل عن الأموات ؛ عندما يمكن تطعيم ذلك ببعض شهادات الحاضرين ؛  و  لأنني لا أحب ان أكون شاهد زور .يمكن لبشير بن يحمد ؛ ان يفخر بأنه أسس مجلة ناجحة ؛ بمقاييس النشر والتوزيع ؛ ولكن مسألة المصداقية ظلت أمرا مشكوكا فيه؛ لمن هو قادر علي التغيير ؛ مائة وثمانون درجة فقط.خلال أسبوع واحد ؛ بدلت المجلة ولاءاتها ؛ لأكثر من جهة ؛حتي لا أقول لمن يدفع أكثر؛ تلك هي السيرة ؛ التي سيرثها اللاحقون ؛ عندما يلحق بن يحمد ؛ بمن ينقل عنهم الشهادات تلو الاخري .. دون أي تعليق .

صحراء ميديا بتاريخ: 02/03/2008  

http://www.saharamedias.net/smedia/index.php/2008-12-23-23-47-54/494--.html

جدة .. بين البحر .. والرمل ..


كان علي ان اغادر  جدة  في المساء ..  قررت ان  اقوم بجولة في منطقة الكورنيش ..  استقليت سيارة  اجرة ..  السائق اليمني انقدته خمسة عشر ريالا .
لا تزال جدة مدينة رخيصة بكل المقاييس ؛ السائق اليمني حضرمي هو الاخر..  كفالته علي فندق العطاس ؛ مثل معظم موظفي الفندق العتيق .
 انزلني السائق  مقابل النافورة وسط البحر الاحمر ؛ سالت ان كان بامكاني الاقتراب اكثر  ؛ فاشار   بعصبية قائلا انها نافورة قصر ملكي..
المرتفع  المائي ينشر البهجة وسط المصطافين ؛ حيث تمتص الرطوبة  وهواء البحر الحرارة المفرطة لجزيرة العرب.
وحدهم اصحاب المطاعم المتلاصقة ؛ يجدون في مشهد النافورة واضواء القصر ؛ منظرا يغري الزوار للبقاء لبعض الوقت.  اخترت مطعم ابو شقرة ؛ مطعم مصري نال شهرة واسعة في مصر اولا ؛ ثم الخليج لاحقا .. يقال ان مالكه رجل كبير في السن ؛ يظهر في فروعه في القاهرة كانسان عادي ؛ ينظف الحمامات ويغسل الارضية .. نجوم التلفزيون هم اول من صنع شهرة المطعم ؛ الذي يقدم المشويات والكباب والحمام المحشي..  اكلت قطع كباب ؛ وشربت عصير البطيخ ؛ ودفعت الثمن مقابل االاستمتاع بالنافورة.مشيت قليلا علي امتداد  الشارع .. الحرارة والرطوبة تثقل الجو ؛ خصوصا لمن قضي بحر الاسبوع ؛ وهو يجد صعوبة في التنفس.
 دخلت محلا للالبسة .. ملابس رجالية من كل الانواع والماركات ؛ ومثلها للنساء ؛ وجدت في الامر غرابة .. من يشتري كل هذه الاصناف ؛ والشعب يلبس اثوابا من مواد مختلفة ؛ ليس بينها القطن او الخيط ؛ اما الوقت كله فهو للحديث عن الشماغ الانجليزي.
عقلي المحدود لم يجد ما يفرق به بين شماغ و اخر ؛ او ثوب ومثله .. الالوان متشابهة ؛ والتطريز واحد  ؛ واخيرا مالذي يدفع المرأ للبحث عن تفاصيل لا تتعدي رأس كم او طرفا من لثام ؟ .
وهنا فقط ادركت كم نعطي نحن اهمية خاصة لللثام  ؛ وخلصت الي ان البدو ملة واحدة من المحيط  الثائر الي الخليج الهادر.
انتقلت الي العطور ؛ ومحلات عبد الصمد القرشي لأول وهلة ؛ هالني ان يبقي من قريش من يهتم بالعطور ؛ فهي  حالة ترف كبير ؛ فالعطر قمة الاحساس والارهاف .
لكن الروائح نفاذة وحادة .. عطر الانسان جزء من شخصيته ؛ كما قال بيير كاردان ؛ وهو يؤسس لعلاقة تجارية بين الانسان والبضاعة ؛ لكنني احسست بعد ساعة من السفر مع الروائح والعطورات ؛ ان ثمة مهمة مطلوبة من العطر ؛ لا يستطيع تحقيقها فهو سفير النوايا والرغبات.
كان مسك الغزال طبيعيا ؛ وجزء من تلقائية الانسان والحيوان في الجزيرة العربية ؛ ثم جاء البخور من الاشجار ؛ وظل دخانا مقبولا ينشر الرائحة الطيبة؛ ثم جاءت ابخرة وعطور من بلاد التوابل الكثيرة ؛ واخيرا جاءت الخلطات ؛ وهي اكبر قدرة علي ملامسة تحمل الانسان .. روائح قوية حادة ؛ لكنها تجد مستساغا في كل الأحوال ؛ والامور تنتهي بالتعود كما يقول اهل التربية .
كنت اود لو انهم بحثوا في الزهور ؛ مثلما يفعل الفرنسيون ؛ او استعادوا روائح الجزيرة  ؛ لكن الأمر بات اكبر من ذلك  ؛ وبات الاعلان والتراشق سمة مجتمع  معولم  ؛ مثل كل المجتمعات الأخري ؛ تحركها شهوة الاستهلاك ؛ اكثر من نداء النفس البشرية ؛ في احساسها الاعتيادي علي رائحة العطورتلك . غادرت عروس البحر الاحمر ؛ وهي تتهادي بين بحر دافئ ؛ وصحراء حارقة. 

صحراء ميديا بتاريخ: 24/02/2008  

http://www.saharamedias.net/smedia/index.php/2008-12-23-23-47-54/443-------.html  

تونس تعيش على وقع حكايات الرئيس المخلوع.. والصحافيون زوار جدد لم تألفهم


الضباب الكثيف الذي كان يلف فضاء مطار محمد الخامس في مدينة الدار البيضاء المغربية، لم يحجب رؤية رفاق الرحلة الى تونس، وغالبيتهم من المنفيين لأسباب مختلفة، بعضها سياسي وبعضها اقتصادي، إذ إن كثيرين منهم عائدون لبدء حياة جديدة في بلدهم بعد سنوات من الحرمان.
على كل الألسنة حديث عن «الطرابلسية»، عائلة زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وحسابات لم تنته بعد. الإحساس بالمرارة والأمل يطغى على الحديث المستفيض الذي تختلط فيه العربية بالفرنسية بالكلمات الدارجة العصية أحياناً على فهم غير المغاربيين.
وقت الانتظار يطول من دون السماح للطائرة بالإقلاع بعد، وفي أثنائه تتشابك حكايات المنفيين العائدين. بين المجلات الموزعة التي تملأ فراغ ساعات الرحلة، واحدة لبنانية خصصت صفحات للدعاية للنظام قبل سقوطه بأيام.
آخر مرة عدت فيها من تونس لعيادة أحد أفراد الأسرة كنت عزمت على ألّا أعود إلا في حالات الضرورة القصوى، وذلك لأسباب الكترونية، فعلى امتداد إقامتي على مدى ثلاثة ايام فشلت في استقبال او إرسال اي بريد إلكتروني، وبذلك انقطعت صلتي بعالمي الواقعي والافتراضي، وقتها لم أدرك وجود تلك الحواجز التي تمنع الإيميل من ان يسافر في ثوانٍ كما تعوّدنا على ذلك جميعاً، الا حين حطت بي الطائرة في باريس وبدأت الرسائل تغرق بريدي متلقياً أجوبة عن أمور فات زمانها.
عادت الى ذهني حكايات عمار 404، ذلك المهندس الشبح الذي اطلق التونسيون اسمه رمزاً للخطأ الذي يقابلك في كل مرة تبحث فيها عن موقع محجوب او عنوان غلط على الشبكة العنكبوتية.
العودة اليوم الى تونس لها مبررات مختلفة، واذا اسثنينا الرغبة في معاينة لحظات التحول، فإن البحث عمّا تغير وما جد في البلاد التي طوت صفحة نادرة في العالم العربي، هو رغبة اي صحافي لا يزال يبحث عن المتاعب في متاعب الآخرين او أفراحهم.
مطار قرطاجة كان من الأماكن النادرة التي سلمت من لعبة تغيير الأسماء، فقد ظل كما هو، منتمياً الى قرطاجة او قرطاجنة، فهو جزء من زهو تاريخ تونس بنفسها. وحده زين العابدين بن علي، لم يعد يستقبلك بصورته تلك التي أزيلت، والتي كانت مرفقة بشعارات مصاحبة ترحب بضيوف مؤتمر الأمم المتحدة للتطور الرقمي، والذي ظل عقده على ارض تونس من مفاخر النظام، الذي أسقطته من بعد الثورة الرقمية إياها.
عند كشك الشرطة، بدا رجل الأمن الشاب مرتبكاً وهو يتحرى عن هويتي وعملي الصحافي ومكان سكني، يريد أن يكون ودوداً، لكن ثلاثة ايام من انقضاء الحكم ليست كافية لتغيير ثقافة ثلاثة عقود من استعداء الصحافة والشك فيها. على كلٍّ مرت الإجراءات بسلام وطبعت سمة الدخول على صفحة من جوازي المزدحم بحبر شرطة الدخول في المنافذ المختلفة.
ها أنا في تونس الجديدة ولولا عصبية سائق التاكسي وحكاياته عن العنف والتسيب وهموم حيه، لقلت ان كل شيء انتهى، وان تونس استعادت هدوءها. لكن الانطباعات الاولى كانت خادعة، فلا يزال ثمة جمر يتقد والجميع يدعو الى ألا تجهض الثورة على امتداد الشارع الفاصل بين المطار وقلب المدينة.
ترى الوجوه المتحفزة نفسها تطل من خلف الأسوار وعند بوابات المباني، بيوت اهل الحي يحرسها اهلها، والعيون حمر وشاهدة على السهر الطويل لتأمين الأهل والجيران من طمع اللصوص الذين تسربوا في لحظات الفوضى والتسيب. لكن الخوف يبقى من الآخرين، رجال الجنرال علي السرياتي الذين ينشرون الرعب أملاً بنشر الفوضى التي تجهض الثورة، وأما الخوف الآخر، فهو هاجس ما يمكن ان يأتي من بلاد مجاورة.
يبقى الهاجس، وكنت قرأت كل ما كتب عن نقص الغذاء وقلة الطعام، ان تجد فندقاً وطعاماً ساخناً يئد الجوع الذي ينشر مخالبه. فندق خير الدين باشا، احد تلك الفنادق المتوسطة التي تعتبر جنة للسياح المحدودي الدخل. لكن الصحافيين، وخصوصاً العاملين في المحطات التلفزيونية يريدون تحويله الى فندق الرشيد، فيما يأمل احد المنتجين بأن يؤجر السطح للقنوات التي تريد أن تعمل طوال فترات حظر التجول، لكن المشكلة ان العرض كثير وتونس مليئة بالفنادق.
هاجس الخوف من الصحافة لم يتلاشَ بعد، موظفة الاستقبال كانت تختفي في كل لحظة لتكلم (المعنيين) هناك عن القادمين الجدد ومن يكونون وماذا يفعلون. إبلاغ الجهات الأمنية جزء من الروتين اليومي في كل الفنادق، خصوصاً في بلاد كانت تحوي من المخبرين ما لا يعلم عدده الا الله.
«لقد سقط بن علي ولم يسقط النظام لكنه غير طريقة تعامله»، يقول احد الصحافيين، الا ان ماهر
عبدالرحمن، وهو احد الصحافيين التونسيين الذي عمل طويلاً في المجال التلفزيوني يلخص الوضع بالقول ان التغيير في العقليات يتطلب وقتاً ليتعوّد الناس على ممارسة الحرية والعمل وفق ثقافتها، الوقت كان قصيراً ليدرك الناس حجم التحول الذي عرفته حياتهم، ولعل ابرز مثال على ذلك ما يجرى اليوم في وكالة الإعلام الخارجي، فقد تخصصت تلك الوكالة في ضبط ما تكتبه الصحافة عن النظام وتنسيق العمل الدعائي له، لكنها وجدت نفسها فجأة في وضع لم تهيأ له، لقد أخذ العاملون على حين غرة بجحافل من المراسلين من كل حدب وصوب، لذا لم يجدوا الوقت الكافي لإزاحة المئات من الكتيبات الصغيرة التي تحوي خطب الرئيس المخلوع وزوجته ليلى الطرابلسي، والتي كانت جزءاً من الزاد الذي يزود به القادمون للوكالة مع التراخيص الممنوحة لعملهم، او اعتذارات الرفض المحفوفة بالابتسامات.
كتب وجدت فيها صحافية صينية شابة تتكلم العربية بلكنة اهل شنغهاي دليلاً على ان التغيير لم يحدث بعد، ربما أملاً بأن لا تحدث العدوى. احد العاملين في الوكالة بدأ يتصفح احدى الجرائد القديمة على انها من صحف اليوم، وحين باغتته صورة بن علي في صدر الصفحة الأولى قال لنا انه شعر بالخوف لحد الفزع من ان يكون الرجل عاد للسلطة من دون ان يعلم.
حكايات وحكايات تجسد حال الخوف من تسارع الأحداث وتتابعها من دون ان تخبر أحداً بما يخبئه له اليوم وربما الساعة التي تلي ذلك. ذلك الخوف الساكن في حياة المواطن الذي يريد أن يضحي وان يحصد بسرعة، لكن لا قبل له بما سيترتب عن ذلك من المنغصات، لقد انتصرنا بأن ازحنا بن علي والآن نريد ان نعيش حياتنا العادية، تردد مجموعة من الأساتذة الجامعيين انتحوا في ركن من مقهى صغير فتح ابوابه للتو ويلوذون بفناجين القهوة لقتل وقت فراغ بدا لهم طويلاً، فالمدارس ما زالت مغلقة والانتظار يطول.
تقترب من شارع الحبيب بورقيبة، وسط المدينة فيصدمك العدد الكبير من الحواجز العسكرية التي تفتش العربات، وتزداد حدة الوجود العسكري كلما اقتربت من المنافذ الحساسة للدوائر الحكومية او المقار الأمنية، ذلك ان الجيش اليوم هو الحاضر الغائب، فهو ليس في الواجهة السياسية، لكنه هو من يمسك بخيوط اللعبة.
في الطريق تقابلك دبابات في كل مكان تصوب فوهاتها الطويلة الى الشارع، بينما يمسك الجنود بأسلحتهم محتضنيها الى صدورهم من دون ان يتحدثوا مع احد. مجرد إيماءة تشير الى ان المرور مسموح او ممنوع، غير أن ثمة رجال امن آخرين لا بد انهم رجال شرطة ببذلاتهم المدنية يفتشون العربات تفتيشاً دقيقاً، خصوصاً في الممرات المؤدية للمصالح الحكومية. ومنذ أن جرى توقيف عدد من المسلحين الذين يستقلون سيارات تاكسي والريبة من تلك العربات تلاحقها، لذا يبادر أصحابها الى اطلاق سلسلة من الشتائم تلاحق الجميع، وتبدأ من العائلة الطرابلسية.
تشرق شمس جديدة على تونس. الحياة تستعيد بعضاً من طبيعتها، نسلك الطريق المؤدي الى ضاحية المرسي احدى المناطق السياحية التي تزدحم عادة بالحركة. زوجان يسيران بمحاذاة السور المطل على البحر ثم ما يلبثان ان يتوقفا امام احدى دبابات الجيش لالتقاط صورة تذكارية، الجنود لا يترددون في القيام بدور المصور. لقد اصبحت الدبابات مصدر جذب بعدما اغلقت المتنزهات.
نمرّ بمحاذاة قصر السعادة بحدائقه الجميلة. هنا كان بورقيبة يقضي بعضاً من اوقاته. تحول القصر في ما بعد الى قاعات افراح للبلدية وتحولت الحدائق متنزهات شعبية بأمر من زين العابدين بن علي. يقول السائق المرافق: لولا الثورة لألحق بممتلكات الطرابلسية. من يدري فقد يحولونه فندقاً.
نواصل الطريق. لا وجود للسياح الذين كانوا يملأون المكان. المقاهي مليئة بالرواد والباعة ينادون على بضائع لا يظهر مشتروها. تظهر عنصران من الجيش التونسي فيلا بأبواب مكسورة يقول السائق، ان أصحابها جزء من عائلة ليلى بن علي، وقتها تدرك مقدار الحقد الذي انصب فجأة على أولئك الناس. لقد دفعوا ثمن قربهم من الرئيس غالياً. تقرأ صحف اليوم فتجد أن باب حكايات آل الطرابلسي هو المنبع الذي يجذب به الصحافيون قراءهم. خبر آخر مهم، فقد تم تقليص ساعات حظر التجول، إذاً الوضع الامني يستقر والحكومة الجديدة بدأت عملها. التظاهرات لم تعد تجذب الناس.
تدس الجرائد في حقيبتك للاستعانة بها على قضاء ليلة اولى تحت حظر التجول، الساعات تمرّ رتيبة. ما اصعب ان يعيش المرء وهو مقيد الحركة وفي محيط مقيد. الليل طويل، تطل من النافذة فلا ترى سوى سيارات الجيش وهي تقطع بهديرها الصاخب صمت المكان فغد يوم آخر فما الذي يخبئه الليل لتونس؟

لا تطبيع تحت المانش


قطار اليورو ستار يختزل ساعة أخري من عمر الرحلة الاعتيادية بين باريس ولندن منذ أن ارتبطت بريطانيا باليابسة الأوروبية الاخري عبر نفق المانش.
قال سائق القطار إن الرحلة ستختصر لأن الإنجليز سمحوا للقطارات أن تزيد سرعتها بعد أن كانت تضطر إلي خفضها بصورة مذهلة إرضاءها لقوانين صاحبة الجلالة.
مال الركاب في الجوار إلي وقالوا جميعا انه شيء رائع أن تصل لندن من باريس خلال ساعتين  وأمنت لهم علي ذلك دون أن تطرف عيني  عن فصل من رواية باولا لايزابيل الليندي التي أعدت قراءتها للمرة الثانية.
كانوا ثلاثة إسرائيليين فتاة ورجال غلاظ لعل من بينهم من قتل فلسطينيا أو أساء إليه في أسوأ الأحوال   كانوا يتناقشون بحدة بالعبرية التي بدت لي صعبة الفهم رغم بعض الكلمات التي يخيل إلي أنها بالعربية  المحرفة  قليلا.
الفرنسيون الذين جلسوا في مقعد مجاور ظلوا يتحدثون عن الشواطئ بدءا  من السيشل حتى جزر الكاريبي البعيدة وعرجوا لبعض الوقت علي كينيا قبل إن يخلصوا أن إحداث النهب والقتل لم تتجاوز الكينيين.
 وبدا الفرنسيون  في حالة ارتياح لأن تجمعات السياح المنشغلون بالتفرج علي اسود الغابة كانوا في منأى عن كل ذلك القتل الهمجي الذي لا يعنيهم  في شيء.
الإذن اللاقطة كانت  تستمع إلي الإسرائيليين وهم يحاولون جذب اهتمامي تارة بتعليقات بلغات مختلفة ليس بينها العربية  لكنني اتخذت قراري واضحا أن لا تطبيع في الوقت الراهن علي الأقل  خصوصا في تلك العشرين دقيقة التي يعبر فيها القطار تحت بحر المانش.
عدت إلى باولا وهي تصارع المرض تحت سمع ونظر والدتها التي أبدعت في نقل أحاسيسها في تلك الرواية الرائعة  لايزابيل الليندي.
 قبل أن تخرجني صوت المضيفة عبر مكبر الصوت من الصفحات المليئة بالمداد والدموع بدت محطة  سانت بكرياس نمطا مختلفا.
خلفت بانكراس واترلوا التي ظلت رمزا للحرب والمصالحة بين الفرنسيين والإنجليز  استقبلتنا لندن بمطرها المدرار وبردها القاسي  بدا سائق التاكسي ثرثارا علي غير عادة الإنجليز وعندما سألني عن جنسيتي أجبته مختصرا إنني من بلاد الشمس فابتسم طويلا قائلا في المرة القادمة اجلب لنا قليلا منها معك  ابتسم كلانا قبل أن يعود الإنجليزي إلي بروده المعتاد خلف الواجهة الزجاجية التي تفصل بعضنا عن بعض وتذكرت أن قليل من الدفء نعمة  في بلاد تموت من البرد حيتانها .

صحراء ميديا بتاريخ: 15/01/2008