تصعد السيارة وتهبط لتسلك المرتفع الجبلي حيث يمتد قصر مرامار مثل جبل آخر، يبتسم السائق الفرنسي الذي يقودنا عبر طريق تظللها أشجار النخيل والصفصاف ويقول لي "الرئيس بانتظارك منذ 16 سنة".
كانت نيس التي تبدو في فرجة بين النخيل والصفصاف مثل أية مدينة متوسطية ببيوت مسقوفة بالقرميد الأحمر ومحاطة بالأبيض المتوسط لدرجة الاحتضان، سلك السائق طريقا فرعيا لينزوي إلى إحدى بوابات القصر الذي حوله مالكه الثري إلى شقق فاخرة لمن يملك ثمن الاصطياف على الشاطئ اللازوردي، سلكنا قبوا طويلاً يؤدي إلى مصعد يقف أمامه رجلا أمن فرنسيان يبتسمان بلباقة ليرافقا زوار الرئيس. وفي الطابق الخامس فتحت زوجته الفرنسية الأصل مريم داداه الباب ليدخل أول صحافي إلى شقة المختار ولد داداه.
في الرواق المؤدي إلى الصالون علقت ألواح خشبية من تلك التي يستعملها الأطفال الموريتانيون في قراءة القرآن وقد بدت خطوط الكتاب الكريم ندية وكأنها خطت بالأمس. كما ظهرت بضعة صور لأطفال الرئيس الثلاثة الذين أصبحوا اليوم شبانا (فتاة وشابان).
قادتني زوجته إلى صالون صغير يؤدي إلى شرفة واسعة يطل منها مشهد بانورامي لمدينة نيس وتحتل مكتبة فرنسية الجزء الأكبر منه.. كتب في القانون الدولي، مذكرات سياسيين فرنسيين كتاب عن الجنرال ديجول وقصة أمين معلوف ليون الإفريقي وكتب كثيرة عن موريتانيا، وبين ثلاثة مقاعد وشجرة نحاس صف بيانو خشبي ركن فوقه تمثال لموزار وسجل نوتات سمفونيات لموزار وباخ تستعملها زوجة الرئيس في أوقات الفراغ لتزجية الوقت. جلسنا بضعة دقائق قبل أن يدخل ولد داداه وهو يرتدي الدراعة "الثوب البدوي الفضفاض".
بادلني التحية، كان علي انتظار بضعة دقائق لاستيعاب أثر الزمن على جسد هذا الرجل، فقد شاب رأسه وضعف صوته دون أن يفقد حيوية ذهنه وقدرته على تذكر المحطات القديمة في حياته رغم سنه المتقدمة (73 عاماً).
إلا أن ولد داداه الذي أثار الضجيج الكبير في بلاده بسبب تصريحاته ومقابلاته للصحافة الموريتانية التي تمت عبر الفاكس يختلف كثيرا عن الرجل الذي يجلس قبالتي، فقد بدا هادئا رزينا ممتلئا بالمرارة، لا لأنه لا يجد التجاوب المطلوب للعودة إلى السلطة مثلما يتصور الكثيرون، بل لأنه حسب ما يعبر عنه بطريقته الخاصة بالإيحاء دون "التصريح" الذي يستهجنه البدو "لم يجد الاهتمام والتقدير" في دولة يعتبر نفسه "مؤسسها وأحد أبرز رموز استقلالها".
وكان المدخل الاعتيادي للحوار معه هو السؤال عن وجود الرغبة في العودة إلى السلطة، تلك السلطة التي قال يوما عنها "إن لها طعما يتم التعود عليه"، يبتسم ولد داداه ليقول بإيجاز من تعود على الصمت "ليس بكيفية خاصة فالمسؤولية لها واجبات أكثر من فوائدها".
إلا أن أكثر ما يثير شجية ولد داداه للحديث هو عن الجسر الذي يفخر بأنه بناه في موريتانيا بين العالم العربي وإفريقيا "انتماؤنا لعالمين هو مصدر غنى" إلا أن التوازن العرقي بين أقلية زنجية وأغلبية عربية يثير الصدام اليوم في موريتانيا حيث يعتقد الكثيرون بأن ذلك كان إجحافا بهوية موريتانيا العربية ويرد ولد داداه ممتعضاً "لا يمكن الشك في عروبتنا التي نفخر بها ولا يمكننا نسيان إفريقيا. التاريخ والجغرافيا جعلا من بلادنا جسراً للاتصال بين عالمين وهو ما أردنا أن نحافظ عليه حتى سنة 1978 (تاريخ الانقلاب الذي أطاحه). موريتانيا لها مكانتها في إفريقيا والعالم العربي ونحن ساعدنا في تقريب وجهات النظر بين الجانبين، لقد تأخر اندماجنا في الجامعة العربية حتى سنة 1973 رغم أننا سوينا خلافاتنا مع الأشقاء المغاربة سنة 1969" وتشط الذاكرة بولد داداه إلى الزمن الوردي "حاولنا استرجاع ما فات وكما تعلمون زرت البلاد العربية كلها ما عدا أربع دول فقط وزارنا ملوك ورؤساء وبالنسبة لإفريقيا لعبنا دورا في بناء الوحدة الإفريقية وحصلنا على نتائج مهمة".
إلا أن موضوع التصادم بين الثقافة العربية (ثقافة الأغلبية) وبين الجماعات الزنجية التي تطالب بحضور أكثر على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي في موريتانيا ليس الموضوع الأكثر حساسية اليوم رغم ما يحمله من بذور التصادم في هذه الدولة الهشة، فطريقة ونهج السلطة التي مارسها ولد داداه على امتداد فترة حكمه التي دامت 18 سنة تأخذ الجانب الأكبر من النقاش الدائر اليوم بين السياسيين من أنصار اتجاهين الأول يتحلق حول الرئيس الحالي معاوية ولد سيد أحمد الطايع والثاني حول المعارضة السياسية التي يتزعمها أحمد ولد داداه (أخو الرئيس الأسبق) وحمدي ولد مكناس والتي تعتبر المختار ولد داداه رمزها الأول يقول ولد داداه "لقد ركزت على ترسيخ بنيان الوحدة الوطنية واحترام المصالح الاجتماعية والاقتصادية بكيفية عامة وأنا أخاطب الموريتانيين جميعاً".
ولكن الكثيرين ينتقدون طريقتك في الحكم وإرساء حزب واحد؟
يأخذ ولد داداه جرعة من الماء لترطيب حلقه ويقول "صحيح أنه كان حزبا واحداً، فعندما بدأنا الاستقلال في ظروف حرجة، كان النظام السياسي السائد هو الحزب الواحد، لقد اخترناه لأنه كان السبيل الوحيد لضمان الوحدة الوطنية، كنا قبائل نتعصب للقبيلة والجهة وبالتالي فإن لحمتنا مهددة، وبالرغم من أنه كان حزبا واحدا فقد كانت هنالك حرية للتعبير والقاعدة تنتقد القمة والقمة تعرف مسؤولياتها أمام الله وأمام الشعب، وعندما يعيد المرء النظر إلى الحياة السياسية يجد أنه داخل هذا الحزب كانت توجد تيارات وآراء مختلفة".
ونسأل ولد داداه إن كان يعتقد أنه رغم غيابه الطويل عن السلطة والحقائق اليومية للحياة في بلده قادر على لعب دور ما: "إن دوري هو تجميع الموريتانيين، المعارضة من جانبها والسلطة فكلهم موريتانيون، وعليهم التفكير في مستقبل البلاد". ونستقي من هذه الكلمات نبرة جديدة لم تلاحظها الصحافة التي تحدثت للرئيس عبر الفاكس فهو أكثر صراحة هذه المرة "لن أتقدم لاية انتخابات ولن أمارس أي دور خاص ومهمتي أن أعطي النصيحة عندما يطلب مني ذلك".
ورغم وضوح هذه الألفاظ التي عبر بها ولد داداه عن رغبة في عدم ممارسة السلطة إلا أنه ظل يطفو فوق الكلمات للبحث عن الدور المحدد الذي يناسبه "أعتبر أنني عملت أشياء كثيرة لهذا البلد" يقول ولد داداه، ويضيف "تسألونني إن كان لا يزال لدي دور محدد اطرحوا السؤال على الموريتانيين إن لي رأيي وواجباتي وهي تملي علي مواقف" ويستثير ولد داداه التاريخ الحديث لبلاده عندما كان رئيسا لموريتانيا غداة الاستقلال ليقول بمرارة "إن التاريخ قد سجل ما قمت به من أجل هذه البلاد وهو ما لا يمكن تلافيه أو نسيانه" ثم يتوجه إلى مكتبه ليريني كتابا جمعت فيه سلسلة من خطاباته في سنوات الاستقلال الأولى "هؤلاء الناس ينسون بسرعة أما التاريخ فهو يسجل كل شيء بأحرف ثابتة".
وعندما نعرض لفكرة وجود استمرارية تصوراته وأفكاره عبر حزبين سياسيين يمثلهما أخوه أحمد ولد داداه وصديقه ووزير خارجيته الأسبق حمدي ولد مكناس، يحاول ولد داداه التنصل من الحديث عن الموضوع "لست رمزاً سياسيا للمعارضة فهي تمثل جزءا من الحياة السياسية فقط، علاقتي يجب أن تكون مع الجميع" يقول ولد داداه.
إلا أن ولد داداه لا يفكر في عودة قريبة إلى بلاده "لن أعود الآن" ونسأله متى ستكون هذه العودة "لا أظنها في القريب" وما هي الأسباب التي تحول دونها يجيب ولد داداه "حين تكون الظروف العامة والخاصة مناسبة" ويتهرب من إضافة تفاصيل جديدة قبل أن يختم بالقول "إن للأمر علاقة بظروفي الشخصية".
وخلافا لما يعتقد سياسيون موريتانيون أن ولد داداه يرتب علاقاته مع الفرنسيين من منفاه الاختياري تمهيدا لعودة تستقطب إثارة إعلامية وسياسية فقد كان واضحا في تلخيص مثل هذه العلاقة "ليست لدي أية علاقات مع رسميين فرنسيين، كل ما في الأمر أن لدي أصدقاء، وأنا أعيش في بلادهم".
إلا أن البعض يتهمك بأنك تريد تجميع علاقات مع الرؤساء الأفارقة لتحصيل الدعم؟ ويجيب ولد داداه "كل ما في الأمر أنني زرت الكوت ديفوار والتقيت برئيسها الذي أعرفه" ولكنك اخترت جواز سفر بنينيا في حين عرض عليك جواز سفر موريتاني؟
"لم يعرض علي جواز سفر بطريقة رسمية، قال لي واحد خارج السلطة إنهم يريدون إعطاءك جواز سفر، فقلت له إذا كانوا يرغبون في ذلك فعليهم أن يفعلوا ذلك ولم تتم متابعة القضية".
وعن حديثه في تطبيق الشريعة يوم اتخذ من هذا الشعار سلاحا لجذب اهتمام الشارع الذي هدته سنوات حرب الصحراء الطاحنة قال ولد داداه "إن الشريعة هي دين الله ويجب العمل بما قال الله ورسوله، إلا أن على المسلمين التغيير في ما يتعلق بالنظام الاقتصادي والاجتماعي حسب ظروف الزمان والمكان".
وبعد أن اختتم ولد داداه حديثه طلب من زوجته أن تريني مكتبته العربية، وقادتني مريم داداه عبر سلم خشبي إلى مكتبة صغيرة، خلف طاولة مكتب، وعندما عدت إليه قال "أرأيت كتبي إنني أقرأ أحيانا في هذا المكتب، كتبا في الفقه والتاريخ وأسمع بعض الموسيقى"، وحين سألته إن كانت موسيقى موريتانية، ابتسم قليلاً قبل أن يردف "أحيانا أسمع لمطربة اسمها منينة إلا أنني لا أذكر اسم والدها".
كان ولد داداه يقول ذلك ونظره مثبت على درج يحتوي على اسطوانات موسيقية كثيرة، تأمل جدارية كبيرة تحمل صورة لبوابة في بلدة ولاته التاريخية في أقصى الشمال الشرقي الموريتاني، سرح بنظره بعيدا وكأنه يستجلي الأفق، وقال لي "هنا قضيت الأشهر الأولى من سجني أو إقامتي المحددة بعد الانقلاب" قبل أن يغيب في شقته وبقيت الصور الكثيرة والألواح الخشبية كبعض ما تبقى من خيط يشد هذا الرجل إلى موريتانيا التي يعتقد أن له بعض الفضل في بنائها. مجرد صور وأحلام بعودة مؤجلة إلى ما شاء الله.