الأحد، 18 ديسمبر 2011

" تاكوري".. راوي كونانكري الحزين !


ظل فندق "الغولف" أحد المحطات الإجبارية بالنسبة لي في كوناكري عاصمة غينيا،  ورغم موقعه في حي "مينيير" الشعبي إلا أن الشبان الموريتانيين الذين تعاقبوا على إدارة الفندق تركوا أثرا طيبا لدى كل من حط رحاله.
في غرفه الواسعة تشعر أنك تعيش داخل بيتك، يصل الشاي لمن رغب فيه، ويجودون عليك بخدمات كثيرة.
اعتاد "كاني" أن يفترش مصطبة خشبية عند بوابة الفندق تجعله في موقع الاختيار الاستراتيجي.... وقار الشيخ الفلاّني، وسيارته النيسان الحمراء اللون أصبحا من العلامات المسجلة؛ فهو حاضر على مدى ساعات اليوم جاهز  للانطلاق دائما وبأسعار منافسة.
في كل يوم نسلك مشوارنا الاعتيادي الذي يبدأ من وسط المدينة؛ حيث نمر على سلطة الصحافة أملا في ترتيب وثائق الاعتماد والتعريج علي المطعم اللبناني، وفي كل مرة يعيد "تاكوري" نفس الجمل وكأنه يقرأ من ذات الشريط.
...هنا جرت آخر محاولة انقلابية إشارة إلى بقايا الرصاص على جدران ثكنة عسكرية.. وهنا فندق "النوفوتيل".. وهذه العمارة يملكها رجل اعمال من الفلان.
طال الانتظار قبل أن تفرج السلطات في غينيا عن وثائق الاعتماد، ونحن نأمل في رحلة الي منطقة الحدود مع السراليون.
 يطلب الموظف كل يوم رسالة جديدة؛  وعندما نستفسر عن الأسباب  يجيب ببساطة :  "لأن رسالة الأمس  كتبت كوناكري بياء زائدة" ونعود أدرجنا علي نفس المسار، فيشتعل الشريط النائم في ذاكرة السائق :..هذا هو فندق النوفوتيل وهنا جرت آخر محاولة انقلابية وقبل ان يلفظ المقطع الأخير نردد معا :"وتلك العمارة يملكها رجل اعمال من الفلان"..  يبتسم "كاني" ويقول ببراءة : لقد أصبحتم تتقنون معرفة كوناكري.
أخيراً.. أفرجت السلطات عن وثائق الاعتماد، وصحبنا السائق إلى فوكاريا للقاء الشبان الذين تجندهم الحكومة لخوض معركة الدفاع عن الوطن التي لم يحسن الجيش إتقانها، وفي مكتب الوالي اكتشف السائق أن حضرة والي الإقليم من أبناء خؤولته وفي طريقنا أصبحت تلك القرابة جزء من اللازمة اليومية تذكر بعد التنبية الي ابرز المعالم التي نمربها.
عندما مررت آخر مرة على فندق الغولف في اطلالة سريعة علي كوناكري قال الشاب الموريتاني محمد الأمين الذي كان يدير الفندق ان السائق العجوز قضي نحبه، وترحمنا عليه فغداً حين نسلك نفس المشوار لن نجد من يملك أسرار كوناكري ويرويها بطريقة روائية تحسده عليها ايزابيل اليندي.

الاثنين، 28 نوفمبر 2011

استقلال..تحت الخيمة


(مقال منشور في يومية الأخبار، نوفمبر 2006).
تمر ذكري الاستقلال فأستعيد نفسي صبيا يحتفل مع الآخرين في المدرسة بالمناسبة..ألعاب وأناشيد واستعراضات؛ وجو من البهجة يشد الأطفال إلى التشبث بالوطن.
حفظنا ألوان العلم، والتحذير من تزوير العملة، واسم الأستاذ الرئيس، ومعه نواب الجمعية الوطنية المعينين علي ورقة زرقاء، حفظنا مانشيتات جريدة الشعب وهي تطبع بالرصاص وعرق الرجال وأفكار الشباب.
 كلما كبرنا ازدادت المناسبات على الطريق، لعبة الكراسي الموسيقية التي احترفها العسكر زادت من المناسبات كل واحدة تلغي الأخرى.. عقد من السنوات ونحن نحتفل بذات الأرقام المكررة 12/ 12 ثم بدأ اليوم الوطني يستعيد جزءا من ألقه، لكنه ظل احتفالا ناقصا يستحي فيه الاعلام الرسمي من تذكر التاريخ القريب فالدولة تنشأ كل مرة من اليوم الذي يقلب فيه الحكم.
المختار ولد داداه والمصطفي ولد محمد السالك ومحمد محمود ولد احمد لولي ومحمد خونا ولد هيدالة انضموا الي السراديب المعتمة في أرشيف التلفزيون.
الاستقلال يطل هذه المرة بأمل جديد يجب ان لا يغيب فيه احد وان ينصف كل من أضاف لبنة في مسار البلاد معاوية ولد الطايع أيضا يجب أن ينال حقه، حقا كان أم باطلا  ففي موريتانيا الجديدة يفسح المكان للجميع حتى لا يتكرر الإقصاء.
في ذكري الاستقلال نستحضر الكثيرين ممن بنوا تاريخ هذا البلد ولم يذكرهم أحد أولئك الذين خطوا ألوان العلم، وانشئوا الجيش، وسيروا أولى الطائرات.. أولئك الذين بثوا عبر الأثير صوت موريتانيا الفتية.
كثيرون من هؤلاء لا يعرفهم أحد ولا تتذكرهم الدولة، لأن مكانتهم احتلها الوصوليون ومزورو التاريخ وسارقو خبز الحاضر ولأن هذه الزاوية لا تتسع لأسمائهم فأملي كبير أن تكون الذكري مناسبة لاستحضارهم، وأملي أكبر أن يقوم رئيس الدولة بلفتة اتجاههم حتي نستكمل المرحلة الانتقالية بحق فالطريق طويلة لوصل الماضي بالحاضر.

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

الحاج طاهرو...الذي لم ير مكة!


أبوجا عاصمة نيجريا الجديدة كل شيء يصنع الفرق بينها وبين لاغوس، فالمدينة  أكثر هدوءا وأقل صخبا  شوارعها الفسيحة سميت بأسماء العواصم الإفريقية: "شارع نواكشوط" واحد من تلك الشوارع الطويلة التي ترفد الطريق السريع إلى المطار.
بُـني  مطار أبوجا لتستفيد منه المدن القريبة المحيطة بالعاصمة  حين زرت ابوجا سعيا للذهاب الي كادونا  التي كانت تشهد صدامات شديدة بين المسلمين والمسيحيين  كان علي اختيار سائق لا يثير الريبة ويعرف كيف يتصرف حسب الظروف.
بدا "الحاج طاهرو" جديرا بالثقة.. خمسيني طويل القامة عريض المنكبين يمتلك قوة للدفاع وقتما دعت الحاجة الي ذلك؛ وقع الإشكال الأول مع الحاج حين تحدثنا عن "الهوسا"  فسلط عليهم أقذع الأوصاف اذ هو كما شرح لنا فيما بعد من "اليوروبا" ولا يحب الهوسا اطلاقا.
حين توقفنا في زاريا إحدي عواصم الهوسا سعيا للقاء الأمير وقع الاحتكاك الأول بينه وبين الحرس وبدل ان نظفر بلقاء امير لا تتأتي رؤيته كدنا نتسبب في حرب أهلية.
قال المصور السنغالي وهو يتوجس خيفة لا بد أن نبرح هذا المكان لأن الحاج ـ كما درجنا على تسميته ـ قادر أن يثير مشكلة جديدة.
حين خرجنا من "زاريا" بعد فشل في لقاء الأمير؛ قال السائق مزهوا وكأنه سجل علامة انتصار ألم أقل لكم إن الهوسا ليسوا جديرون بزيارتكم؟.... كدت اشتبك معه؛ لكنني كنت في حاجة إللى معرفته "بكادونا" التي تعيش بها بعض قبائل اليوروبا.
في الطريق إلى المدينة النيجرية روي لنا طاهر زيارته اليتيمة إلى الحج وكيف انه قضي معظم الوقت يجول في أماكن لا علاقة لها بمناسك الحج..!!
أحد زملائه روى لنا فيما بعد نتـفا من الرحلة الشهيرة التي قادت طاهرو إلى الديار المقدسة وكيف انه حين شاهد الزحمة  في مطار جدة آثر الانتظار لحين استكمال الحج ليصبح الحاج الوحيد الذي لم يزر مكة!.

الاثنين، 3 أكتوبر 2011

برشلونة ..كتاب "غودي"


عدا عن الحيرة ازاء تجليات إبداع "غودي" في فن العمارة ببرشلونة ، فان المدينة الأكثر أوروبية في اسبانيا تبدو عادية وذلك سر تميزها. ليست بها زحمة مرورية كبيرة كما في مدريد ،ولا احتقان في الصراع علي الهوية بين المهاجرين والسكان الأصليين كما في مدن إسبانية أخري
لقد نجحت الحكومات "الكاتلانية" المتعاقبة في عدم تخصيص "غيتوهات" خاصة لفئة دون أخري من المهاجرين ، لذا بدا صديقي الكاتلاني ،مدير بلاندوليت ، الصحافي في قناة التلفزيون الثالثة ،مزهوا وهو يقول  لي بافتخار ان احدي تلك الساحات المليئة بالرسامين والزوار نهارا تتحول في الليل إلي ملعب للكريكيت، تتنافس فيها فرق من الباكستانيين.
النقطة السوداء الوحيدة في سجل التعايش مع الأقليات في عاصمة كاتالونيا، هي الحديث عن النقاب والبرقع. لست ادري من  الذي جلب ذلك السجال الذي ينفس فيه السياسيون الفرنسيون عن عدم قدرتهم جلب أفكار جاذبة في التنمية والحياة ،تنفع في الانتخابات في زمن الأزمة والخيبات.
قال مدير انه بحث طويلا ووجد ان النقاب ليس من الضرورات. وبدون الغوص في حديث فقه الأقليات التي أدرك تماماً أني وصديقي الكاتالاني لا نفتي فيه بالقدر المقنع الا اننا اتفقنا ان لا حاجة للبرقع في شوارع برشلونة كما إن لأهل السياسة شأنا أفضل من تسجيل صورة نمطية غير واقعية عن الإسلام.
برشلونة تتنفس الثقافة .هنا تركوا لذلك المهندس الفنان، كامل حريته ليبني العمارة حسب خياله الجامح .العمارات تأخذ أشكالا بهلوانية ، أشجار ،أوراق ورسوم وألوان مختلفة.
"غودي" ونادي فريق بارصا، ليسا وحدهما من يساهم في جاذبية المدينة التي اختارتها مجلة" فوربس" كواحدة من أفضل المدن في العالم  لمناخ الأعمال.
لم نتطرق ،أنا والمدير، كثيرا للبارصا وان كان الجدل الدائر اليوم و يشغل بال الجميع هو كون مؤسسة قطرية هي الراعي الأهم للفريق الكروي الشهير. لست ادري قدر الحساسية وما هي أسبابها ولكن كل ما اعرفه ان ثمة حاجة للمال في زمن الأزمة والمال العربي يثير الجدل أينما حل بشرط ان يقع في أيدي الجهة المنافسة في الغرب، في السياسة كما في الرياضة.
قاومت فكرة إن اشتري قميصا للبرصا ، اهديه لأحد الشبان في قريتنا الذين يلعبون بأقدام حافية ويحفظون أسماء كل اللاعبين.
 انتصرت في النهاية إرادة ان لا اشتري القمصان الرياضية فقد كرهت كرة القدم منذ ان انهزم فريق قريتنا في احدي المباريات ولم تشفع لي انتصاراته فيما بعد.
في جامعة" رامون يؤول" التي أخذت اسمها من احد المثقفين الكاتلان، في القرن الثاني عشر، وجدت نفسي أمام فريق عمل مختلف. وجدت حرية مطلقة في الحديث دون أن تواجهني " تابوهات "وأشفقت علي الشبان الذين سيكونون قريبا جزءا من قبيلة الصحافيين. بدت أسئلتهم المليئة بالحيرة جزءا من التكوين وهو ما أكده ناظر الكلية فيما بعد،  حين قال لي نريد دائماً أن نشوش أذهان الطلاب اذ الشك  في النهاية هو اقصر طريق للإيمان.
في برشلونة التقيت صديقي، كيم امور، بعد فراق دام عقدا ونيف. كان عائدا للتو من القاهرة وبيروت لتصوير فيلم وثائقي عن واحد من اقدم واشهر المراسلين الإسبان في العالم العربي هو  توماس الكوبيرو.
لم يفقد كيم أريحيته وحسه الفكاهي الذي غذته السنوات الخمس التي قضاها مراسلا في القاهرة لجريدة "البريوديكو"
راكم الصحفي التجربة وبدا فرحا ومتحمسا للثورات العربية وقال لي أتعرف ان العرب أفضل منا؟ لقد غيروا حكامهم في ثورة حقيقية، اما نحن الإسبان فقد انتظرنا فرانكو حتي يموت لنقول اننا غيرنا كل شيئ.
تنازعنا، وانا كيم،  لبعض الوقت ثم اتفقنا في النهاية . كان يريد  استعادة قطعة الأرض التي وهبته إياها حين جاء الي في قريتنا مشدوها بالصحراء وحياتها الأسطورية في خياله الغربي. احتكمنا ل "غوغل ارث " ليقول له المحرك بلغة الصورة ان الصحراء التي شاهدها أخر مرة قبل خمسة عشر عاما امتلأت بالبيوت المتناثرة ولم يعد بها موطئ قدم لاسباني حالم.
قلت لصديقي الكاتالوني اولا ثم الاسباني لاحقا : إنني شخصيا فضلت الركون الي ارض أجدادي علي بعد ثلاثة أميال من قريتنا  لاستعادة ما سنفقده قريبا  من صمت الصحراء الذي لا يقدر بثمن.
حان وقت الوداع فتلك زيارة خاطفة وقلت لأصدقائي الإسبان ان مدينتهم "برشلونة" جميلة و شعبهم مضياف تماماً مثل عبارات البرقيات التي يبعث بها الرؤساء وهم يعبرون أجواء الغير، حيث لا يكلفون أنفسهم حتي عناء إطلالة من الفضاء ؛ اما أنا فقد تمعنت كثيرا لأن مطالعة المدن مثل قراءة الكتب الجميلة متعة حقيقية لمن عايشها  فقط.

صحراء ميديا بتاريخ: 02/10/2011  
http://www.saharamedias.net/smedia/index.php/2008-12-24-00-08-06/12526--qq-.html